الضربات الإسرائيلية تفتح صفحة جديدة في التفكير الأمني الخليجي
لطالما شكّل الخليج العربي نقطة توازن دقيقة في المعادلات الجيوسياسية العالمية. فمنذ عقود، كان يُنظر إلى المنطقة باعتبارها مركزًا للطاقة العالمية وممرًا استراتيجيًا للتجارة، وساحة صراع بين محاور إقليمية ودولية.
لكن التطورات الأخيرة – من الهجمات الإيرانية في يونيو/حزيران إلى الغارات الإسرائيلية على قطر هذا الشهر – كشفت عن تحولات جذرية في البيئة الأمنية الخليجية، وأطلقت نقاشًا غير مسبوق حول جدوى الافتراضات التي حكمت أمن المنطقة لنصف قرن.
ومنذ حرب الخليج عام 1990، بُنيت الاستراتيجية الخليجية على قناعة راسخة بأن الولايات المتحدة هي الضامن النهائي للأمن. وجود القواعد الأمريكية، وصفقات السلاح الضخمة، ومواءمة السياسات مع واشنطن، كانت كفيلة – كما اعتُقد – بحماية دول الخليج من أي تهديد خارجي.
لكن الأحداث الأخيرة أظهرت هشاشة هذا المنطق. فالهجوم الإيراني على قطر في يونيو، ثم الهجوم الإسرائيلي في سبتمبر، وقعا دون ردع أمريكي يذكر. بالنسبة لكثيرين في الخليج، لم يكن صمت واشنطن سهوًا بل تواطؤًا صريحًا، ما قوّض صورة الولايات المتحدة كحامٍ موثوق.
الافتراض الثاني الذي ساد هو أن الاندماج في الهياكل الغربية – عبر تصدير الطاقة، مكافحة الإرهاب، أو التطبيع مع إسرائيل – سيؤمّن مظلة حماية إضافية.
لكن هجوم الدوحة كشف حدود هذا النهج: لا الارتباط بالاقتصاد الأمريكي ولا التطبيع مع إسرائيل ضمنا الأمن، ولا حتى وفاء الخليج باستثمارات بمليارات الدولارات في الولايات المتحدة كان كافيًا لردع الاعتداءات.
تحوّل في تصورات التهديد
لعقود، تمحور التفكير الأمني الخليجي حول إيران باعتبارها الخصم الأول. إسرائيل، رغم عداوتها التاريخية، كانت تُعامل ببراغماتية متزايدة، إذ اعتُبر التطبيع معها وسيلة لتعزيز الشراكة مع واشنطن. غير أن الهجوم الإسرائيلي على قطر غيّر هذه المعادلة.
إسرائيل بدت كقوة تعمل بحرية في الخليج دون أي قيد، حتى من حليفها الأمريكي. إيران لا تزال تهديدًا قائمًا، لكنها محاصرة بالعقوبات والرقابة الدولية. أما إسرائيل، فهي مدعومة سياسيًا وعسكريًا من الغرب، ما يجعلها – في نظر عواصم خليجية – أكثر خطورة لأنها غير مقيدة ومُمكّنة.
ولفترة طويلة، كان يُعتقد أن انسحاب واشنطن من المنطقة مجرد انكفاء مؤقت، مرتبط بتغير الإدارات أو أولويات السياسة الخارجية. لكن اليوم، يتأكد لصنّاع القرار في الخليج أن هذا التراجع بنيوي ودائم.
وباتت الولايات المتحدة متمحورة حول مصالح آنية بدلًا من تحالفات طويلة الأمد، وصارت ترى في الخليج شريكًا ماليًا واقتصاديًا أكثر من كونه شريكًا أمنيًا. بالنسبة للنخب الخليجية، باتت واشنطن “راكبًا مجانيًا” يستفيد من استثمارات الخليج ونفوذه الدبلوماسي دون أن يقدم ضمانًا أمنيًا حقيقيًا.
لحظات فاصلة على الطريق
لم تكن ضربات هذا العام معزولة. فهي امتداد لمسار بدأ منذ هجوم بقيق عام 2019 على منشآت النفط السعودية، والذي اعتُبر لحظة صادمة بعدما مرّ دون رد أمريكي قوي.
في يونيو 2025، تكررت التجربة مع قطر في مواجهة إيران. وفي سبتمبر، جاء الهجوم الإسرائيلي ليؤكد أن واشنطن لم تعد قادرة أو راغبة في كبح حتى أقرب حلفائها.
هذه المحطات تراكمت لتشكل قناعة جديدة: أمن الخليج لا يمكن أن يُترك رهينة الضمانات الأمريكية.
بروز نزعة الحكم الذاتي
مع اهتزاز الثقة في واشنطن، تتجه دول الخليج نحو تعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية، وتنويع شراكاتها مع قوى أخرى مثل الصين وروسيا، مع السعي لتقوية الأطر الإقليمية للأمن الجماعي.
في الوقت نفسه، يتنامى الشعور في بعض العواصم بأن إسرائيل باتت “دولة منبوذة” لا تقل خطورة عن إيران، بل أخطر لأنها تعمل بغطاء دولي. هذا الشعور بالخيانة يعيد ترتيب أولويات الأمن الخليجي ويضع التطبيع تحت مجهر إعادة التقييم.
وهذه التحولات لا تقتصر على السياسة الدفاعية، بل تمتد إلى ملفات الطاقة، التجارة، والتحالفات. فالتقارب مع قوى كبرى خارج المعسكر الغربي قد يغير موازين القوى في البحر الأحمر والخليج. كما أن إعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل قد تنعكس على مستقبل اتفاقيات أبراهام، وتحد من آفاق توسيعها.
في الوقت ذاته، تبقى دول الخليج أمام تحدي مزدوج: إدارة التهديد الإيراني المتواصل، ومواجهة إسرائيل التي لم تعد “شريكًا محتملاً” بل خصمًا يتصرف بحرية في المنطقة.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=72725



