السياسة الدولية

الصين ترسم ملامح المرحلة الجديدة من العلاقات الأمريكية–السعودية

لا يمكن قراءة التحول المتسارع في العلاقات الأميركية–السعودية خلال أواخر عام 2025 بمعزل عن الدور البنيوي الذي باتت تلعبه الصين في الخليج. فزيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى واشنطن وما رافقها من تأكيدات أميركية بضمانات أمنية وتعاون عسكري متقدم، رآها كثيرون في الغرب إعادة اصطفاف تهدف لاحتواء الصين.

لكن هذا التفسير—وفق تحليل أوراسيا ريفيو—يبتعد كثيرًا عن جوهر المشهد الجيوسياسي الجديد.

فالسعودية اليوم ليست ساحة صراع صفري بين قطبين، بل لاعب مستقل في نظام دولي متعدد، يُعيد صياغة قواعد التحالف التقليدي مع واشنطن من دون أن يتخلى عن شراكاته الاقتصادية العميقة مع بكين. وبعبارة أخرى: التحالف الأمني مع الولايات المتحدة لا ينتقص من العمق الاقتصادي مع الصين، بل يعزّزه.

السعودية تنهار فيها أسطورة “إما واشنطن أو بكين”

لا يزال التفكير الغربي تقليديًا إلى حد كبير: صعود نفوذ الصين يعني تلقائيًا خسارة لمصالح الولايات المتحدة. لكن هذا المنطق أحادي القطب لم يعد صالحًا في الشرق الأوسط. فالسعودية، بسياسة “السعودية أولًا”، اختارت تنويع الشركاء لا اختيار طرف واحد.

ومع عودة المظلة الأمنية الأميركية إلى الواجهة—عبر تفاهمات دفاعية واسعة وتطوير أنظمة تسليح تشمل مقاتلات F-35—تحقق الرياض هدفًا استراتيجيًا يريح الصين بدلاً من أن يضرّها.

فالصين، أكبر مستورد للنفط السعودي، تحتاج قبل كل شيء إلى خليج آمن. وإذا كانت واشنطن هي التي تتحمل كلفة حماية الممرات البحرية، فإن بكين تستفيد اقتصاديًا دون تحمل تكاليف الانتشار العسكري.

ويمنح هذا التوازن الصين مجالًا واسعًا للحفاظ على نفوذها الاقتصادي مع الاحتفاظ بمسافة آمنة من الصراعات الأمنية.

الدور الاقتصادي الصيني… العمود الفقري للتغيير السعودي

رغم التحول الأمني في العلاقات بين الرياض وواشنطن، تبقى الصين الشريك الذي لا غنى عنه في رؤية 2030. فلم تعد الولايات المتحدة قادرة على تقديم بديل مماثل لحجم وقدرات الشركات الصينية في البناء والتصنيع والطاقة.

تشير البيانات إلى أن أكثر من 750 شركة صينية تعمل في السعودية حتى نهاية 2025، وتحتكر قطاعات واسعة من مشاريع التحول الحضري مثل نيوم والسكك الحديدية والطاقة الشمسية.

في المقابل، يتركز الاهتمام الأميركي في الدفاع والتقنيات عالية الحساسية، وهو تركيز لا يمسّ البنية العميقة للمشاريع السعودية.

التجارة بين الصين والسعودية توضّح الصورة أكثر حيث السعودية تزوّد الصين بالطاقة اللازمة للاقتصاد الصناعي فيما الصين تستثمر وتبني وتوفّر السلع والخدمات.

وهذا التكامل ليس ظرفيًا بل هيكليًا، يصعب تفكيكه عبر أي تغيير في التحالفات العسكرية.

التكنولوجيا… حيث يتعايش النفوذ الأميركي مع الوجود الصينيالتكنولوجيا تمثل ساحة التنافس الأبرز بين واشنطن وبكين في الخليج.

في الاجتماعات الأخيرة، ضغطت الولايات المتحدة للحد من توسع البنية التحتية الرقمية الصينية في السعودية، في مسعى لوقف انتشار التقنيات التي تراها خطرة على أمنها القومي.

لكن النتيجة لم تكن تراجعًا سعوديًا أمام الصين، بل إعادة توزيع للأدوار. بكين تحولت نحو مجالات لا تواجه حظرًا أميركيًا مباشرًا، مثل الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية والبنية التحتية المدنية.

وشهد عام 2025 توقيع اتفاقيات لإنشاء مصانع سيارات كهربائية صينية داخل المملكة—خطوة تؤكد أن السعودية تختار التقنية التي تخدمها، لا الطرف الذي يريد فرضها.

كما أن الرياض شرحت للصينيين مسبقًا أن صفقاتها الأمنية مع واشنطن لا تعني خروج الصين من المشهد، بل تنظيم العلاقة بما يحفظ “السيادة التكنولوجية” السعودية.

الطاقة… حيث يفرض السوق قواعد اللعبة

ورغم الضغوط الأميركية، يبقى اقتصاد الطاقة هو المحرك الأكبر للعلاقات السعودية–الصينية.

فالصين ليست مجرد مشترٍ للنفط السعودي، بل هي المستهلك الوحيد القادر على ضمان طلب طويل الأمد في ظل التحول العالمي للطاقة.

وبينما يرسخ الاتفاق الأمني الأميركي موقع الدولار لفترة قصيرة، فإن الأفق البعيد يتحرك باتجاه يسمح للصين بزيادة نفوذها المالي، سواء عبر البترويوان أو عبر أنظمة تسويات عملات ثنائية.

وبما أن الولايات المتحدة منافس نفطي للسعودية، بينما الصين زبون دائم، فإن الرياض مضطرة لتغليب حساباتها التجارية على حسابات الضغوط الجيوسياسية.

والمحصلة النهائية لهذا التحول ليست انتصارًا أميركيًا ولا هزيمة صينية، بل توازن جديد يكرّس تعددية الأقطاب التي دافعت عنها بكين لسنوات.

الولايات المتحدة تضطر اليوم للعودة بتفاهمات أمنية ثقيلة لعدم فقدان موقعها، بينما تستمر الصين في بناء نفوذ هادئ ومستدام يقوم على الاقتصاد والاستثمار.

في المرحلة الجديدة، تتكفّل واشنطن بتأمين المنطقة، بينما تحصد بكين الفوائد الاقتصادية.

أما السعودية، فهي اللاعب الذي يستفيد من القوتين معًا، ويستخدم هذا التوازن لفرض استقلاليته ونسج نظام إقليمي جديد يتجاوز نمط التحالفات القديمة.

وبذلك، تبقى الصين—لا الولايات المتحدة—القوة الأكثر تجذّرًا في مستقبل الشرق الأوسط الاقتصادي، مهما تبدلت التحالفات العسكرية.

الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=73146

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى