قراءة في تعاظم نفوذ صناديق الثروة السيادية الخليجية عالميا
تحوّلت صناديق الثروة السيادية الخليجية خلال العقد الأخير من أدوات ادّخار واستثمار بعيدة عن الأضواء إلى لاعبين مركزيين في الجيوسياسة العالمية، مع تصاعد قدرتها على التأثير في الأسواق، والتكنولوجيا، والتحالفات الدولية.
وقالت مجلة فورين بوليسي في تحليل لها إن هذا التحول يعكس إعادة تموضع استراتيجي لدول الخليج في عالم يتغير بسرعة، حيث لم تعد القوة تُقاس فقط بالجيوش أو عدد السكان، بل بقدرة الدولة على توجيه رأس المال وتوظيفه سياسياً.
وذكرت المجلة أن الدلالة الأبرز على هذا التحول ظهرت مبكراً هذا العام، عندما اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن تكون أولى زياراته الخارجية إلى قطر والسعودية والإمارات، متجاوزاً أوروبا وآسيا.
وبحسب المجلة عكست هذه الزيارة إدراكاً متزايداً في واشنطن بأن هذه الملكيات الخليجية باتت تمتلك أدوات نفوذ تتجاوز الجغرافيا التقليدية، وفي مقدمتها صناديق الثروة السيادية.
ووفقاً لجاريد كوهين وجورج لي، الرئيسين المشاركين لمعهد جولدمان ساكس العالمي، أصبحت الصناديق السيادية الخليجية اليوم من بين أكبر مالكي الأصول ومخصّصي رأس المال في الاقتصاد العالمي.
والأرقام تدعم هذا الاستنتاج: من أصل نحو 14 تريليون دولار تمثل إجمالي الثروة السيادية عالمياً، تتركز قرابة 5.6 تريليون دولار في أربع دول خليجية فقط هي السعودية وقطر والإمارات والكويت، مقارنة بـ2.3 تريليون دولار عام 2015.
وتشير التوقعات إلى أن هذا الرقم قد يصل إلى 8.8 تريليون دولار بحلول عام 2030.
تاريخياً، لم تكن هذه الصناديق محل اهتمام سياسي أو إعلامي كبير. فمنذ تأسيس أول صندوق ثروة سيادي في الكويت عام 1953، ظلت معظم الصناديق تتبع نهجاً استثمارياً محافظاً وسلبياً نسبياً.
لكن منتصف العقد الماضي شكّل نقطة تحوّل، مع صعود قيادات خليجية شابة حملت طموحات تتجاوز إدارة الفوائض المالية، نحو تنويع الاقتصادات وبناء نفوذ عالمي قائم على التكنولوجيا والمعرفة.
غير أن هذه الطموحات اصطدمت في البداية بإرث “الحرب على الإرهاب”، حيث كانت الجيوسياسة تقود الاقتصاد لا العكس.
ومع جائحة كوفيد-19، ثم تصاعد المنافسة الأمريكية-الصينية، تغيّر المشهد. برز ما يسميه كوهين “رأس المال الأداتي”، أي رأس مال موجَّه من الدولة لتحقيق عوائد مالية ضخمة، وفي الوقت ذاته خدمة أهداف استراتيجية وجيوسياسية بعيدة المدى.
في هذا السياق، باتت الصناديق السيادية الخليجية لاعباً لا غنى عنه في قطاعات المستقبل، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي. ففي الأشهر التسعة الأولى من عام 2025 وحدها، شكّلت الصناديق السيادية في الشرق الأوسط نحو 40% من إجمالي تدفقات الصفقات العالمية في هذا المجال، بقيمة تجاوزت 56 مليار دولار. هذا الحجم من الاستثمار يمنحها قدرة استثنائية على التأثير في مسارات التكنولوجيا، وتحديد الفائزين والخاسرين في السوق.
والنفوذ هنا لا ينبع من القوة العسكرية أو الديموغرافية، بل من الموقع الجيوسياسي والقدرة على المناورة بين القوى الكبرى. ففي عالم تتنافس فيه واشنطن وبكين، دون أن تتمكن أي منهما من حسم الصراع لصالحها، تحتاج القوتان إلى شركاء محوريين.
وهنا تبرز دول الخليج الأربع بوصفها “دولاً متأرجحة” تمتلك هامش اختيار واسعاً، وتدعمه سيولة مالية هائلة يمكن توجيهها بسرعة وحسم.
لكن هذا النموذج ليس موحداً بين دول الخليج. فالسعودية، ذات الكتلة السكانية الأكبر، توظف ثروتها السيادية لبناء رأس مال بشري محلي واقتصاد معرفة، مع رهانات ضخمة على مشاريع مستقبلية، رغم ما تحمله من مخاطر مالية عند تراجع أسعار النفط.
إذ أن قطر، على النقيض، تركز على بناء “أبطال وطنيين” عالميين في قطاعات الطيران والطاقة والإعلام والخدمات المالية، لجذب الكفاءات وملء بنية تحتية شُيّدت على نطاق يفوق حجم سكانها.
أما الإمارات، فقد استفادت من ميزة السبق، ونجحت في بناء نظام بيئي متكامل من الصناديق السيادية، جعلها من أكثر المستثمرين السياديين نشاطاً وتأثيراً في العالم، مع اقتصاد لم يعد النفط يشكل سوى 30% من ناتجه.
ومقارنة بصناديق مثل النرويج أو سنغافورة، تتميز الصناديق الخليجية بوضوح بعدها السياسي. فبينما يعمل الصندوق النرويجي وفق قواعد برلمانية صارمة وبمنطق “المؤشر العالمي”، تمزج الصناديق الخليجية بين الاستثمار والعائد الاستراتيجي، ما يجعلها أدوات سياسة خارجية بقدر ما هي محافظ مالية.
ويثير هذا الصعود أيضاً مخاوف من اختلالات مستقبلية، سواء على مستوى الإقليم أو الجنوب العالمي، حيث قد يؤدي تركّز رأس المال إلى تفاوتات جديدة ونفوذ غير متكافئ.
لكن المؤكد أن صناديق الثروة السيادية الخليجية لم تعد مجرد خزائن مالية، بل أصبحت رافعة أساسية في إعادة تشكيل موازين القوة في النظام الدولي، في لحظة تتراجع فيها القواعد القديمة وتتشكل فيها خرائط نفوذ جديدة.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=73323



