القمع العابر للحدود: الإمارات تمد نفوذها إلى ما وراء حدودها
كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن قضية تسلّط الضوء على ما تسميه منظمات حقوقية بـ”القمع العابر للحدود” الذي تمارسه الإمارات. فالمعارض المصري عبد الرحمن القرضاوي، الشاعر والناشط المناهض للاستبداد، يقبع منذ أكثر من سبعة أشهر في السجون الإماراتية من دون محاكمة بعد أن سلّمته السلطات اللبنانية إلى أبوظبي، إثر انتقاده سياسات الإمارات على وسائل التواصل الاجتماعي. القضية تطرح أسئلة كبرى حول مدى توسع يد الأنظمة الاستبدادية لتطال معارضيها خارج حدودها.
وقد بدأت فصول القصة في ديسمبر الماضي حين سافر القرضاوي إلى سوريا للاحتفال بسقوط بشار الأسد على يد المعارضة المسلحة. هناك بثّ مقطع فيديو تحدث فيه عن أمله في سقوط بقية “الحكّام المستبدين” في المنطقة، محذرًا من “الأنظمة العربية المخزية والصهاينة العرب في الإمارات والسعودية ومصر” التي قد تتآمر ضد سوريا الجديدة.
بعد أيام، اعتقلته قوات الأمن اللبنانية أثناء عبوره الحدود. لكن بدلاً من ترحيله إلى مصر، حيث يواجه حكمًا غيابيًا منذ 2016، أو إلى تركيا التي عاش فيها لسنوات وحصل على جنسيتها، جرى نقله بشكل مفاجئ إلى الإمارات، الدولة التي لا تربطه بها أي علاقة مباشرة.
نفوذ إقليمي يتجاوز الحدود
قرار بيروت بتسليم القرضاوي إلى الإمارات لا إلى القاهرة عكس حجم النفوذ الذي تتمتع به أبوظبي في المنطقة. يقول المحامي اللبناني محمد صبلوح: “مصر دولة فقيرة لا تفيد لبنان، بينما الإمارات تفيده”. وهكذا، تجاوب لبنان بسرعة مع الطلب الإماراتي، متجاهلًا تحذيرات خبراء أمميين دعوا إلى عدم تسليمه خشية تعرضه للتعذيب أو الاختفاء القسري.
هذا السلوك يعكس كيف تحولت الإمارات، عبر ثروتها النفطية وتحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة، إلى قوة سياسية واقتصادية تتجاوز حدودها الجغرافية، مستخدمة أدواتها في ملاحقة الأصوات المعارضة أينما وجدت.
قوانين تُطبَّق خارج الحدود
اعتُقل القرضاوي رسميًا في 28 ديسمبر، وبحلول 8 يناير كان على متن طائرة إلى الإمارات. وبحسب نيويورك تايمز، تبدو قضيته أول تطبيق لقانون إماراتي واسع لمكافحة “الشائعات والجرائم الإلكترونية” خارج حدود الدولة، ما يمثل سابقة خطيرة في توظيف التشريعات المحلية لملاحقة معارضين في دول أخرى.
حتى أغسطس لم يُسمح لعائلته سوى بزيارتين قصيرتين، بينما حُرموا من أي تواصل منتظم معه أو معرفة مكان احتجازه بشكل واضح. محاميه البريطاني رودني ديكسون وصف الأمر بالقول: “نحن في فراغ كامل، لقد اختفى”.
الإمارات بين صورة “الرفاهية” وحقيقة السلطوية
تُسوّق الإمارات نفسها على أنها وجهة جذب للملايين بفضل أمنها ورفاهيتها الاقتصادية وانفتاحها النسبي، لكنها في الواقع واحدة من أكثر الأنظمة سلطوية في المنطقة. قوانينها تجرّم أشكالًا واسعة من التعبير عبر الإنترنت، بما في ذلك أي محتوى يُعتبر مسيئًا لـ”سمعة الدولة أو هيبتها”.
القرضاوي نفسه، الذي يملك أكثر من 800 ألف متابع على منصة X، لم يُلاحق بسبب دعمه السابق لحركة حماس فقط، بل بسبب مقاطع مصورة نشرها في ديسمبر هاجم فيها الإمارات واصفًا إياها بـ”دولة المؤامرات والثورات المضادة”. بعد خمسة أيام من أحد تلك المقاطع، وجد نفسه خلف القضبان.
خلفية شخصية وسياسية
القرضاوي (54 عامًا) هو نجل الشيخ يوسف القرضاوي، الداعية الإسلامي البارز الذي عاش في قطر لعقود حتى وفاته عام 2022. الأب كان أحد أبرز دعاة الإسلام السياسي والثورات الديمقراطية في العالم العربي. أما الابن فقد عاش منذ نحو عقد في المنفى بتركيا، حيث حصل على جنسيتها وواصل نشاطه المعارض عبر الإنترنت.
كان من أشد المنتقدين للأنظمة الاستبدادية العربية، ومن أبرز الداعمين للمقاومة الفلسطينية. في أحد آخر منشوراته قبل اعتقاله، كتب قصيدة تمجيدية ليحيى السنوار، القائد البارز في حركة حماس الذي اغتيل في أكتوبر 2023.
ردود دولية وضغوط حقوقية
قدّم المحامي ديكسون شكوى باسم العائلة إلى فريق الأمم المتحدة المعني بالاحتجاز التعسفي، مطالبًا بالتحقيق في قضيته وإعلان احتجازه غير قانوني. كما أصدر خبراء أمميون بيانًا في 8 يناير يحثون لبنان على عدم تسليمه للإمارات.
ورغم ذلك، تواصل السلطات الإماراتية تبرير احتجازه باعتباره “توقيفًا احتياطيًا” على ذمة التحقيق بتهمة “أنشطة تهدف لتقويض الأمن العام”، مؤكدة أن الأمر يتماشى مع القانون وحقوق الإنسان. لكنها لم تحدد سقفًا زمنيًا، ما يثير المخاوف من أن يبقى محتجزًا إلى أجل غير مسمى.
عائلة بين الخوف والألم
قالت عائلته في بيان: “عبد الرحمن من أشجع الناس الذين نعرفهم. محبوب من بناته الثلاث وعائلته، وكل يوم يمر من دونه يزيد الخوف والحزن”. وأضافت: “نناشد الإمارات أن تستمع لخبراء الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الذين أكدوا مرارًا أن هذا الاحتجاز انتهاك مخزٍ للقانون الدولي”.
ويرى محاموه أن قضية القرضاوي تمثل سابقة خطيرة قد تُرهب كل المعارضين في المنطقة. يقول صبلوح: “إسكات القرضاوي سيجعل آخرين في الدول العربية يخشون على أنفسهم، وبالتالي يخافون من انتقاد أي نظام”.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=72575



